سورة إبراهيم - تفسير تفسير الشعراوي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (إبراهيم)


        


{مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ(16)}
أي: من خلف الجبار المُتعنِّت بالكفر جهنمُ، وما فيها من عذاب. وفي العامية نسمع مَنْ يتوعد آخر ويقول له (وراك... وراك) ويعني بذلك أنه سيُوقع به أذىً لم يَأتِ أوانه بَعْد.
وكلمة (وراء) في اللغة لها استخدامات متعددة؛ فمرَّة تأتي بمعنى (بَعْد) والمثل في قوله تعالى عن امرأة إبراهيم عليه السلام: {وامرأته قَآئِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِن وَرَآءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ} [هود: 71].
أي: جاء يعقوب من بعد إسحق.
ومرّة تُطلق (وراء) بمعنى (غير) مثل قول الحق سبحانه: {والذين هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلاَّ على أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ فَمَنِ ابتغى وَرَآءَ ذلك فأولئك هُمُ العادون} [المؤمنون: 5-7].
وهنا يقول الحق سبحانه: {مِّن وَرَآئِهِ جَهَنَّمُ...} [إبراهيم: 16].
ونعلم أن جهنم ستأتي مستقبلاً، أي: أنها أمامه، ولكنها تنتظره؛ وتلاحقه.
ويتابع الحق سبحانه: {ويسقى مِن مَّآءٍ صَدِيدٍ} [إبراهيم: 16].
والصديد هو الماء الرقيق الذي يخرج من الجُرْح، وهو القَيْح الذي يسيل من أجساد أهل النار حين تُشْوى جلودهم.
ولنا أن نتصورَ حجم الألم حين يحتاج أحدهم أن يشرب؛ فيُقدَّم له الصديد الناتج من حَرْق جلده وجُلُود أمثاله. والصديد أمر يُتأفَّفُ من رؤيته؛ فما باَلُنا وهو يشربه، والعياذ بالله.
ويقول الحق سبحانه متابعاً لِمَا ينتظر الواحد من هؤلاء حين يشرب الصديد: {يَتَجَرَّعُهُ وَلاَ يَكَادُ يُسِيغُهُ...}.


{يَتَجَرَّعُهُ وَلَا يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ(17)}
ويتجرعه أي: يأخذه جَرْعة جَرْعة، ومن فرط مرارته لا تكون له سيولة تُستسَاغ؛ فيكاد يقف في الحَلْق؛ والإنسان لا يأخذ الشيء جَرْعة جَرْعة إلا إذا كان لا يقدر على استمرار الجرعة؛ ولكن هذا المشروب من الصديد لا يكاد يستسيغه مَنْ يتجرعه. ويقال: استساغ الشيء. أي: ابتلعه بسهولة.
وقوله سبحانه: {وَلاَ يَكَادُ يُسِيغُهُ...} [إبراهيم: 17].
أي: لا يكاد يبلعه بسهولة فطعْمُه وشكله غير مقبولين.
ويتابع سبحانه: {وَيَأْتِيهِ الموت مِن كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ...} [إبراهيم: 17].
أي: ينظر حوله فيجد الموت يحيط به من كل اتجاه، لكنه لا يموت، ويُفاجأ بأن العذاب يحيط به من كل اتجاه مُصدِّقاً لقول الحق سبحانه: {وَمِن وَرَآئِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ} [إبراهيم: 17].
هكذا يتعذب الجبار المتعنت في أمر الإيمان. وإذا قِسْنَا العذاب الغليظ بأهونِ عذاب يلقَاهُ إنسان من النار لوجدنا أنه عَذابٌ فوق الاحتمال؛ فها هو صلى الله عليه وسلم يقول: «إن أهون أهل النار عذاباً يوم القيامة لَرجلٌ يُوضعَ في أخْمَص قدميه جمرتان يغلي منهما دماغه».
فمَا بالُنَا بالعذاب الغليظ، وقانا الله وإياكم شرَّه؟
ويقول سبحانه من بعد ذلك قضية كونية: {مَّثَلُ الذين كَفَرُواْ...}.


{مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لَا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ(18)}
وقد يأتي في أذهان البعض ما يُشوِّه عقائد الإيمان، فيقول: كيف يدخل فلانُ النار وهو مَنْ أهدى البشريةَ تلك المخترعات الهائلة التي غيَّرت مسارات الحضارة، وأسعدتْ الناس؟ كيف يُعذِّب الله هؤلاء الذين بذلوا الجهد ليطوروا من العلوم والفنون، أيعذبهم لمجرد أنهم كفار؟
وأقول: نعم، يعذبهم الله على الرغم من أنه سبحانه لا يضيع عنده أَجْرُ مَنْ أحسنَ عملاً؛ وهو قادر على أنْ يَجزيهم في الدنيا بما ينالونه من مجد وشهرة وثروة؛ وهم قد عملوا من أجل ذلك. وانطبق عليه قوله: (عملتَ لِيُقال وقد قِيل) وأخذوا أجورهم مما عَمِلوا لهم؛ ذلك أنهم عملوا ولم يكُنْ في بالهم الله.
وهكذا يصور القرآن مسألة الجزاء، فالواحد من هؤلاء الكفار إذا كان يَلْقى العذاب الغليظ على الكفر؛ فالحق لا يغمطه أجر ما فعل من خير؛ فينال ذلك في الدنيا ويستمتع بإطلاق اسمه على اختراعه أو اكتشافه.
ونعلم جميعاً قوله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه» أما في الآخرة فالعذاب جزاؤه؛ لأنه عاش كافراً بالله.
وهذه الأعمال التي صنعوها في الدنيا، وظنُّوا أنها أعمالٌ إنسانية وأعمال بِرٍّ تأتي يوم القيامة وهي رماد تهبُّ عليه الريح الشديدة في يوم عاصف لتذره بعيداً: {مَّثَلُ الذين كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشتدت بِهِ الريح فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لاَّ يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُواْ على شَيْءٍ ذلك هُوَ الضلال البعيد} [إبراهيم: 18].
ولن تكون لديهم عندئذ فرصة لاستئناف الحياة ليستفيدوا من التجربة؛ بل أمامهم وحولهم العذاب؛ لسان حال كل منهم يقول: {رَبِّ ارجعون لعلي أَعْمَلُ صَالِحاً...} [المؤمنون: 99- 100].
لكنه لو رُدَّ إلى الحياة لَعَاد إلى ما نُهِي عنه، مِصْداقاً لقول الحق سبحانه: {وَلَئِن رُّدِدتُّ إلى رَبِّي لأَجِدَنَّ خَيْراً مِّنْهَا مُنْقَلَباً} [الكهف: 36].
وهذا الكفر هو الضلال البعيد الذي جعل كل أعمالهم التي ظنُّوا أنها صالحة؛ مجردَ أعمال مُحْبطة؛ فضلُّوا بالكفر عن الطريق المُوصِّل إلى خير الآخرة.
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله...}.

2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9